الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ الحمد للّه، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وسلم تسليما كثيرًا. قال الشيخ أبو محمد عبد القادر في كتاب ]فتوح الغيب[: لابد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء: أمر يمتثله. ونهي يجتنبه. وقدر يرضي به. /فأقل حالة لا يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة، فينبغي له أن يلزم بها قلبه، ويحدث بها نفسه، ويأخذ بها الجوارح في كل أحواله. قلت: هذا كلام شريف، جامع يحتاج إليه كل أحد، وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد، وهي مطابقة لقوله تعالى: فحقيقة الأمر أن كل عبد فإنه محتاج في كل وقت إلى طاعة اللّه ورسوله، وهو: أن يفعل في ذلك الوقت ما أمر به في ذلك الوقت وطاعة اللّه ورسوله هي: عبادة اللّه التي خلق لها الجن والإنس، كما قال تعالى: / وإنما كانت الثلاثة ترجع إلى امتثال الأمر؛ لأنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل شيء من الفرائض، كالصلوات الخمس والحج ونحو ذلك، يحتاج إلى فعل ذلك المأمور، وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى الامتناع والكراهة والإمساك عن ذلك، وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت، وأما من لم تخطر له المعصية ببال، فهذا لم يفعل شيئًا يؤجر عليه، ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلامته من عقوبة الذنب، والعدم المحض المستمر لا يؤمر به، وإنما يؤمر بأمر يقدر عليه العبد، وذاك لا يكون إلا حادثًا، سواء كان إحداث إيجاد أمر، أو إعدام أمر. وأما القدر الذي يرضى به، فإنه إذا ابتلى بالمرض أو الفقر أو الخوف، فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب، ومأمور بالرضا، إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولان، ونفس الصبر والرضا بالمصائب هو طاعة للّه ورسوله، هو من امتثال الأمر وهو عبادة للّه. /لكن هذه الثلاثة وإن دخلت في امتثال الأمر عند الإطلاق، فعند التفصيل والاقتران: إما أن تخص بالذكر، وإما أن يقال: يراد بهذا مالا يراد بهذا، كما في قوله: ومثل هذا قوله تعالى: وبالجملة فرق ما بين ما يؤمر به الإنسان ابتداء، وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة، أو عند حب الشيء وبغضه. وكلام الشيخ ـ قدس اللّه روحه ـ يدور على هذا القطب، وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويخلوا فيما سواهما عن إرادة؛/ لئلا يكون له مراد غير فعل ما أمر اللّه به، وما لم يؤمر به العبد بل فعله الرب عز وجل بلا واسطة العبد، أو فعله بالعبد بلا هوى من العبد. فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به. وسيأتي في كلام الشيخ ما يبين مراده، وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به، ويترك ما نهي عنه. وأما إذا لم يكن هو أمر العبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله، وهذه هي [الحقيقة] في كلام الشيخ وأمثاله. وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان: أحدهما: أن يكون العبد مأمورًا فيما فعله الرب. إما بحب له وإعانة عليه. وإما ببغض له ودفع له. والثاني: ألا يكون العبد مأمورًا بواحد منهما. فالأول: مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره، فهو مأمور بحبه وإعانته عليه، كإعانة المجاهدين في سبيل اللّه على الجهاد، وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب الإمكان، وبمحبة ذلك والرضا به، وكذلك هو مأمور عند مصيبة الغير: إما بنصر مظلوم، وإما بتعزية مصاب، وإما بإغناء فقير ونحو ذلك. /وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه، فمثل ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان، فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه، وإنكاره بحسب الإمكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). وأما ما لا يؤمر العبد فيه بواحد منهما، فمثل ما يظهر له من فعل الإنسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها على طاعة ولا معصية. فهذه لا يؤمر بحبها، ولا ببغضها، وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الاستعانة بها على طاعة ولا معصية. مع أن هذا نقص منه، فإن الذي ينبغي أنه لا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على الطاعة، فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى اللّه تعالى بالنوافل بعد الفرائض، ولم يزل أحدهم يتقرب إليه بذلك حتى أحبه، فكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وأما من فعل المباحات مع الغفلة، أو فعل فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب المحارم باطنًا وظاهرًا، فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين. /وبالجملة الأفعال التي يمكن دخولها تحت الأمر والنهي لا تكون مستوية من كل وجه، بل إن فعلت على الوجه المحبوب كان وجودها خيرًا للعبد، وإلا كان تركها خيرًا له وإن لم يعاقب عليها، ففضول المباح التي لا تعين على الطاعة عدمها خير من وجودها، إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة اللّه، فإنها تكون شاغلة له عن ذلك، وأما إذا قدر أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها، وإن شغلته عن معصية اللّه كانت رحمة في حقه، وإن كان اشتغاله بطاعة اللّه خيرًا له من هذا وهذا. وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الاستعانة بها على الطاعة، كالنوم الذي يقصد به الاستعانة على العبادة؛ والأكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الاستعانة به على العبادة، إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نقصًا من العبد وفوات حسنة، وخير يحبه الله، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك)، وقال في الصحيح: (نفقة المسلم على أهله يحتسبها صدقة). فما لا يحتاج إليه من المباحات، أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة، فعدمه خير من وجوده، إذا كان مع عدمه يشتغل بما هو / خير منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في بضع أحدكم صدقة). قالوا: يارسول اللّه، يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر. قال: (أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر؟) قالوا: بلى ! قال: (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر، فلم تعتدون بالحرام ولا تعتدون بالحلال ؟). وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه اللّه إلى ما أباحه اللّه، يقصد فعل المباح معتقدًا أن اللّه أباحه، (واللّه يحب أن يأخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته) كما رواه الإمام أحمد في المسند ورواه غيره؛ ولهذا أحب القصر والفطر، فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي لا يحبه اللّه إلى ما يحبه اللّه من الرخصة، هو من الحسنات التي يثيبه اللّه عليها، وإن فعل مباحًا لما اقترن به من الاعتقاد والقصد اللذين كلاهما طاعة للّه ورسوله.فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. وأيضًا، فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات، هو مأمور بالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش؛ ولهذا يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها، ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجبًا للوعيد، كما هو قول جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه، بل وهو مأمور / بنفس عقد النكاح إذا احتاج إليه وقدر عليه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (في بضع أحدكم صدقة) فإن المباضعة مأمور بها لحاجته ولحاجة المرأة إلى ذلك، فإن قضاء حاجتها التي لا تنقضي إلا به بالوجه المباح صدقة. والسلوك سلوكان: سلوك الأبرار أهل اليمين، وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهرًا. والثاني: سلوك المقربين السابقين، وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان، وترك المكروه والمحرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). وكلام الشيوخ الكبارـ كالشيخ عبد القادر وغيره ـ يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب وينهون عما هو مكروه غير محرم، فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة، وبالعامة مسلك العامة، وطريق الخاصة طريق المقربين ألا يفعل العبد إلا ما أمر به، ولا يريد إلا ما أمر اللّه ورسوله بإرادته، وهو ما يحبه / اللّه ويرضاه، ويريده إرادة دينية شرعية، وإلا فالحوادث كلها مرادة له خلقًا وتكوينًا. والوقوف مع الإرادة الخلقية القدرية مطلقًا غير مقدور عقلًا، ولا مأمور شرعًا؛ وذلك لأن من الحواث ما يجب دفعه ولا تجوز إرادته، كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله، أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على دفعه، أو أراد إضلال الخلق وإفساد دينهم ودنياهم، فهذه الأمور يجب دفعها وكراهتها؛ لا تجوز إرادتها. وأما الامتناع عقلا، فلأن الإنسان مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافره، فهو عند الجوع يحب ما يغنيه كالطعام، ولا يحب ما لا يغنيه كالتراب فلا يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء. وكذلك يحب الإيمان والعمل الصالح الذي ينفعه، ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره، بل ويحب اللّه وعبادته وحده، ويبغض عبادة ما دونه، كما قال الخليل: فقد أمرنا اللّه أن نتأسى بإبراهيم والذين معه، إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون اللّه، وقال الخليل: والفرق ثابت بين الحب للّه والحب مع اللّه، فأهل التوحيد والإخلاص يحبون غير اللّه للّه، والمشركون يحبون غير اللّه مع اللّه، كحب المشركين لآلهتهم، وحب النصارى للمسيح، وحب أهل الأهواء رؤوسهم. فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه، وبغض مايضره لم يمكن أن تستوى إرادته لجميع الحوادث فطرة وخلقًا، ولا هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريدًا لجميع الحوادث، بل قد أمره اللّه بإرادة أمور وكراهة أخرى. / والحنيفية: هي الاستقامة بإخلاص الدين للّه، وذلك يتضمن حبه تعالى والذل له، لا يشرك به شيء، لا في الحب ولا في الذل؛ فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل، وذلك لا يستحقه إلا اللّه وحده، وكذلك الخشية والتقوى للّه وحده، والتوكل على اللّه وحده. والرسول يطاع ويحب، فالحلال ما أحله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى: والرسل بعثوا بذلك، كما قال تعالى: فهذا هو الأصل الذي يجب على كل أحد أن يعتصم به، فلا بد أن يكون مريدًا محبًا لما أمره اللّه بإرادته ومحبته. كارهًا مبغضًا لما أمره اللّه بكراهته وبغضه. والناس في هذا الباب أربعة أنواع: أكملهم الذين يحبون ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغضون ما أبغضه اللّه ورسوله، فيريدون ما أمرهم اللّه ورسوله بإرادته، ويكرهون ما أمرهم اللّه ورسوله بكراهته، وليس عندهم حب ولا بغض لغير ذلك. فيأمرون بما أمر اللّه به ورسوله، ولا يأمرون بغير ذلك، وينهون عما نهى اللّه عنه ورسوله، ولا ينهون عن غيرذلك، وهذه حال الخليلين أفضل البرية: محمد وإبراهيم صلى الله عليهما وسلم، وقد / ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إني واللّه لا أعطي أحدًا، ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت). وذكر: أن ربه خيره بين أن يكون نبيًا ملكًا؛ وبين أن يكون عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا. فإن النبي الملك مثل: داود وسليمان، قال تعالى: فالنبي الملك: يعطي بإرادته لا يعاقب على ذلك، كالذي يفعل المباحات بإرادته، وأما العبد الرسول فلا يعطي ولا يمنع إلا بأمر ربه، وهو محبته ورضاه وإرادته الدينية، والسابقون المقربون أتباع العبد الرسول، والمقتصدون أهل اليمين أتباع النبي الملك، وقد يكون للإنسان حال هو فيها خال عن الإرادتين: وهو ألا تكون له إرادة في عطاء ولا منع، لا إرادة دينية هو مأمور بها، ولا إرادة نفسانية سواء كان منهيًا عنها أو غير منهي عنها، بل ما وقع كان مرادًا له، ومهما فعل به كان مرادًا له، من غير أن يفعل المأمور به شرعًا في ذلك. /فهذا بمنزلة من له أموال يعطيها وليس له إرادة في إعطاء معين، لا إرادة شرعية ولا إرادة مذمومة، بل يعطي كل أحد. فهذا إذا قدر أنه قام بما يجب عليه بحسب إمكانه ولكنه خفى عليه الإرادة الشرعية في تفصيل أفعاله، فإنه لايذم على ما فعل ولا يمدح مطلقًا، بل يمدح لعدم هواه، ولو علم تفصيل المأمور به وأراده إرادة شرعية لكان أكمل؛ بل هذا مع القدرة إما واجب وإما مستحب. وحال هذا خير من حال من يريد بحكم هواه ونفسه؛وإن كان ذلك مباحًا له، وهو دون من يريد بأمر ربه لا بهواه، ولا بالقدر المحض. فمضمون هذا المقام أن الناس في المباحات من الملك والمال وغير ذلك على ثلاثة أقسام: قوم لا يتصرفون فيها إلا بحكم الأمر الشرعي. وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم. وهو حال العبد الرسول ومن اتبعه في ذلك. وقوم يتصرفون فيها بحكم إرادتهم والشهوة التي ليست محرمة. وهذا حال النبي الملك. وهو حال الأبرار أهل اليمين. وقوم لا يتصرفون بهذا ولا بهذا. أما الأول: فلعدم / علمهم به. وأما الثاني: فلزهدهم فيه؛ بل يتصرفون فيها بحكم القدر المحض، اتباعًا لإرادة اللّه الخلقية القدرية حين تعذر معرفة الإرادة الشرعية الأمرية، وهذا كالترجيح بالقرعة إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم، وقد يتصرف هؤلاء في هذا المقام بإلهام يقع في قلوبهم وخطاب. وكلام الشيخ عبد القادر ـ قدس اللّه روحه ـ كثيرًا ما يقع في هذا المقام؛ فإنه يأمر بالزهد في إرادة النفس وهواها، حتى لا يتصرف بحكم الإرادة والنفس، وهذا رفع له عن حال الأبرار أهل اليمين وعن طريق الملوك مطلقًا ، ومن حصل هذا وتصرف بالأمر الشرعي المحمدي القرآني فهو أكمل الخلق، لكن هذا قد يخفى عليه، فإن معرفة هذا على التفصيل قد يتعذر أو يتعسر في كثير من المواضع ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد ابن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل مقاتلتهم، وبسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم. قال: (لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة)، وذلك أن تخيير ولي الأمر بين القتل والاسترقاق، والمن والفداء ليس تخيير شهوة، بل تخيير رأي ومصلحة، فعليه أن يختار الأصلح، فإن اختار ذلك فقد وافق حكم اللّه، وإلا فلا. ولما كان هذا يخفي كثيرًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث / الصحيح: (إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم اللّه فلا تنزلهم على حكم اللّه، فإنك لا تدري ماحكم اللّه فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك)، والحاكم الذي ينزل أهل الحصن على حكمه عليه أن يحكم باجتهاده، فلما أمر سعد بما هو الأرضي للّه، والأحب إليه، حكم بحكمه، ولو حكم بغير ذلك لنفذ حكمه فإنه حكم باجتهاده، وإن لم يكن ذلك هو حكم اللّه في الباطن. ففي مثل هذه الحال التي لا يتبين الأمر الشرعي في الواقعة المعينة، يأمر الشيخ عبدالقادر وأمثاله من الشيوخ: تارة بالرجوع إلى الأمر الباطن والإلهام إن أمكن ذلك، وتارة بالرجوع إلى القدر المحض لتعذر الأسباب المرجحة من جهة الشرع، كما يرجح الشارع بالقرعة. فهم يأمرون ألا يرجح بمجرد إرادته وهواه، فإن هذا إما محرم وإما مكروه، وإما منقص، فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات. ثم إن تبين لهم الأمر الشرعي وجب الترجيح به، وإلا رجحوا، إما بسبب باطن من الإلهام والذوق، وإما بالقضاء والقدر الذي لا يضاف إليهم. ومن يرجح في مثل هذه الحال باستخارة اللّه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن، فقد أصاب. /وهذا كما أنه إذا تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد، وعند المقلد المستفتي، فإنه لا يرجح شيئًا، بل ما جرى به القدر أقروه، ولم ينكروه، وتارة يرجح أحدهم: إما بمنام، وإما برأي مشير ناصح، وإما برؤية المصلحة في أحد الفعلين. وأما الترجيح بمجرد الاختيار، بحيث إذا تكافأت عنده الأدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره. فهذا ليس قول أحد من أئمة الإسلام، وإنما هو قول طائفة من أهل الكلام، ولكن قاله طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي: أنه يخير بين المفتين المختلفين. وهذا كما أن طائفة من السالكين إذا استوى عنده الأمران في الشريعة رجح بمجرد ذوقه وإرادته، فالترجيح بمجرد الإرادة التي لا تستند إلى أمر علمي باطن ولا ظاهر، لا يقول به أحد من أئمة العلم والزهد. فأئمة الفقهاء والصوفية لا يقولون هذا. ولكن من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته، فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته وذوقه. لكن قد يقال: القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي. وعلى هذا التقدير ليس من هذا، فمن غلب على قلبه إرادة ما يحبه اللّه، وبغض ما يكرهه اللّه، إذا لم يدر في الأمر المعين / هل هو محبوب للّه أو مكروه، ورأي قلبه يحبه أو يكرهه، كان هذا ترجيحًا عنده. كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه، فإن الترجيح بخبر هذا عند انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي. ففي الجملة، متى حصل ما يظن معه أن أحد الأمرين أحب إلى اللّه ورسوله، كان هذا ترجيحًا بدليل شرعي، والذين أنكروا كون الإلهام طريقًا على الإطلاق أخطؤوا، كما أخطأ الذين جعلوه طريقًا شرعيًا على الإطلاق. ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحًا، وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى، فإلهام مثل هذا دليل في حقه؛ قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة، والأحاديث الضعيفة، والظواهر الضعيفة، والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب، والخلاف وأصول الفقه. وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللّه) ثم قرأ قوله تعالى: وأيضًا فاللّه ـ سبحانه وتعالى ـ فطر عباده على الحنيفية: وهو حب المعروف، وبغض المنكر، فإذا لم تستحل الفطرة فالقلوب مفطورة على الحق، فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان، منورة بنور القرآن، وخفي عليها دلالة الأدلة السمعية الظاهرة، ورأى قلبه يرجح أحد الأمرين، كان هذا من أقوى الأمارات عند مثله، وذلك أن اللّه علم القرآن والإيمان. قال اللّه تعالى: وفي الصحيحين عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللّه أنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة)، وفي الترمذي وغيره حديث النواس عن النبي صلى الله عليه وسلم / أنه قال: (ضرب اللّه مثلًا صراطًا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو من فوق الصراط. فالصراط المستقيم هو الإسلام، والستور حدود اللّه، والأبواب المفتحة محارم اللّه. فإذا أراد العبد أن يفتح بابًا من تلك الأبواب ناداه المنادي ـ أو كما قال ـ يا عبد اللّه لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. والداعي على رأس الصراط كتاب اللّه، والداعي فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مؤمن). فقد بين أن في قلب كل مؤمن واعظ، والواعظ الأمر والنهي بترغيب وترهيب؛ فهذا الأمر والنهي الذي يقع في قلب المؤمن مطابق لأمر القرآن ونهيه؛ ولهذا يقوى أحدهما بالآخر. كما قال تعالى: وقد يؤتي العبد أحدهما ولا يؤتي الآخر، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل / المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر). والإلهام في القلب تارة يكون من جنس القول والعلم والظن والاعتقاد، وتارة يكون من جنس العمل والحب والإرادة والطلب، فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب، وقد يميل قلبه إلى أحد الأمرين دون الآخر، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر)، والمحدث الملهم المخاطب، وفي مثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وابصة: (البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك) وهو في السنن. وفي صحيح مسلم عن النواس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس). وقال ابن مسعود: الإثم حزاز القلوب. وأيضًا فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقينًا أو ظنًا، فالأمور الدينية كذلك بطريق الأولى، فإنه إلى كشفها أحوج، لكن هذا في الغالب لابد أن يكون كشفًا بدليل، وقد يكون / بدليل ينقدح في قلب المؤمن، ولا يمكنه التعبير عنه. وهذا أحد ما فسر به معنى الاستحسان. وقد قال من طعن في ذلك ـ كأبي حامد وأبي محمد ـ: ما لا يعبر عنه فهو هوس، وليس كذلك؛ فإنه ليس كل أحد يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه، وكثير من الناس يبينها بيانًا ناقصًا، وكثيرمن أهل الكشف يلقي في قلبه أن هذا الطعام حرام، أو أن هذا الرجل كافر أو فاسق، من غيردليل ظاهر، وبالعكس قد يلقي في قلبه محبة شخص وأنه ولي للّه أو أن هذا المال حلال. وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية، لكن إن مثل هذا يكون ترجيحًا لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة. فالترجيح بها خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قطعًا، فإن التسوية بينهما باطلة قطعًا.كما قلنا: إن العمل بالظن الناشئ عن ظاهر أو قياس خير من العمل بنقيضه إذا احتيج إلى العمل بأحدهما. والصواب الذي عليه السلف والجمهور أنه لابد في كل حادثة من دليل شرعي، فلايجوز تكافؤ الأدلة في نفس الأمر، لكن قد تتكافأ عند الناظر لعدم ظهور الترجيح له، وأما من قال: إنه ليس في نفس الأمر حق معين، بل كل مجتهد عالم بالحق الباطن في المسألة، وليس لأحدهما على الأخر مزية في علم ولا عمل، فهؤلاء / قد يجوزون أو بعضهم تكافؤ الأدلة، ويجعلون الواجب التخيير بين القولين، وهؤلاء يقولون ليس على الظن دليل في نفس الأمر؛ وإنما رجحان أحد القولين هو من باب الرجحان بالميل والإرادة، كترجيح النفس الغضبية للانتقام، والنفس الحليمة للعفو. وهذا القول خطأ؛ فإنه لابد في نفس الأمر من حق معين يصيبه المستدل تارة ويخطئه أخرى. كالكعبة في حق من اشتبهت عليه القبلة والمجتهد إذا أداه اجتهاد إلى جهة سقط عنه الفرض بالصلاة إليها كالمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى قول فعمل بموجبه كلاهما مطيع للّه، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع للّه وله أجر على ذلك، وليس مصيبًا بمعنى أنه علم الحق المعين؛ فإن ذلك لا يكون إلا واحدًا ومصيبه له أجران وهذا في كشف الأنواع التي يكون عليها دليل شرعي لكن قد يخفي على العبد، فإن الشارع بين الأحكام الكلية. وأما الأحكام المعينات التي تسمى: تنقيح المناط، مثل كون الشخص المعين عدلًا أو فاسقًا أو مؤمنًا أو منافقًا أو وليًا للّه أو عدوًا له، وكون هذا المعين عدوًا للمسلمين يستحق القتل، وكون هذا العقار ليتيم أو فقير يستحق الإحسان إليه، وكون هذا المال يخاف عليه من ظلم ظالم، فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله، فهذه / الأمور لا يجب أن تعلم بالأدلة الشرعية العامة الكلية، بل تعلم بأدلة خاصة تدل عليها. ومن طرق ذلك: الإلهام، فقد يلهم اللّه بعض عباده حال هذا المال المعين، وحال هذا الشخص المعين، وإن لم يكن هناك دليل ظاهر يشركه فيه غيره. وقصة موسى مع الخضر هي من هذا الباب، ليس فيها مخالفة لشرع اللّه تعالى؛ فإنه لا يجوز قط لأحد لا نبي ولا ولي أن يخالف شرع اللّه، لكن فيها علم حال ذاك المعين بسبب باطن يوجب فيه الشرع ما فعله الخضر، كمن دخل إلى دار وأخذ ما فيها من المال لعلمه بأن صاحبها أذن له وغيره لم يعلم، ومثل من رأى ضالة أخذها ولم يعرفها، لعلمه بأنه أتى بها هدية له، ونحو ذلك. ومثل هذا كثير عند أهل الإلهام الصحيح. والنوع الثاني: عكس هذا، وهو أنهم يتبعون هواهم، لا أمر اللّه، فهؤلاء لا يفعلون ولا يأمرون إلا بما يحبونه بهواهم، ولا يتركون وينهون إلا عما يكرهونه بهواهم، وهؤلاء شر الخلق. قال تعالى: ألا ترى أن أبا طالب نصر النبي صلى الله عليه وسلم، وذب عنه أكثر من غيره؛ لكن فعل ذلك لأجل القرابة، لا لأجل اللّه تعالى، فلم يتقبل اللّه ذلك منه، ولم يثبه على ذلك؟! وأبو بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ أعانه بنفسه وماله للّه؛ فقال اللّه فيه: القسم الثالث: الذي يريد تارة إرادة يحبها اللّه؛ وتارة إرادة يبغضها اللّه. وهؤلاء أكثر المسلمين، فإنهم يطيعون اللّه تارة، ويريدون ما أحبه، ويعصونه تارة، ويريدون ما يهوونه، وإن كان يكرهه. والقسم الرابع: أن يخلو عن الإرادتين، فلا يريد للّه ولا لهواه، وهذا يقع لكثير من الناس في بعض الأشياء، ويقع لكثير / من الزهاد والنساك في كثير من الأمور. وأما خلو الإنسان عن الإرادة مطلقًا فممتنع، فإنه مفطور على إرادة مالابد له منه وعلى كراهة ما يضره ويؤذيه، والزاهد الناسك إذا كان مسلمًا فلا بد أن يريد أشياء يحبها اللّه: مثل أداء الفرائض وترك المحارم، بل وكذلك عموم المؤمنين لابد أن يريد أحدهم أشياء يحبها اللّه، وإلا فمن لم يحب اللّه، ولا أحب شيئًا للّه، فلم يحب شيئًا من الطاعات، لا الشهادتين ولا غيرهما ولا يريد ذلك فإنه لا يكون مؤمنًا، فلابد لكل مؤمن من أن تكون له إرادة لبعض ما يحبه اللّه؛ وأما إرادة العبد لما يهواه ولا يحبه اللّه، فهذا لازم لكل من عصى اللّه، فإنه أراد المعصية واللّه لا يحبها ولا يرضاها. وأما الخلو عن الإرادتين المحمودة والمذمومة فيقع على وجهين: أحدهما: مع إعراض العبد عن عبادة اللّه تعالى وطاعته وإن علم بها، فإنه قد يعلم كثيرًا من الأمور أنه مأمور بها، وهو لا يريدها ولا يكره من غيره فعلها، وإذا اقتتل المسلمون والكفار لم يكن مريدًا لانتصار هؤلاء الذي يحبه اللّه، ولا لانتصار هؤلاء الذي يبغضه اللّه. والوجه الثاني: يقع من كثير من الزهاد العباد الممتثلين لما / يعلمون أن اللّه أمر به، المجتنبين لما يعلمون أن اللّه نهى عنه، وأمور أخرى لا يعلمون أنها مأمور بها ولا منهي عنها، فلا يريدونها ولا يكرهونها لعدم العلم، وقد يرضونها من جهة كونها مخلوقة مقدرة، وقد يعاونون عليها، ويرون هذا موافقة للّه وأنهم لما خلو عن هوى النفس كانوا مأمورين بالرضا بكل حادث؛ بل والمعاونة عليه. وهذا موضع يقع فيه الغلط، فإن ما أحبه اللّه ورسوله علينا أن نحب ما أحبه اللّه ورسوله. وما أبغضه اللّه ورسوله فعلينا أن نبغض ما أبغضه اللّه ورسوله، وأما ما لا يحبه اللّه ورسوله ولا يبغضه اللّه ورسوله كالأفعال التي لا تكليف فيها مثل أفعال النائم والمجنون، فهذا إذا كان اللّه لا يحبها ويرضاها ولا يكرهها ويذمها، فالمؤمن أيضًا لا ينبغي أن يحبها ويرضاها ولا يكرهها. وأما كونها مقدورة ومخلوقة للّه فذاك لا يختص بها، بل هو شامل لجميع المخلوقات. واللّه تعالى خلق ما خلقه لما شاء من حكمته، وقد أحسن كل شيء خلقه، والرضا بالقضاء ثلاثة أنواع: أحدها: الرضا بالطاعات؛ فهذا طاعة مأمور بها. والثاني: الرضا بالمصائب، فهذا مأمور به: إما مستحب، وإما واجب. /والثالث: الكفر والفسوق والعصيان، فهذا لا يؤمر بالرضا به، بل يؤمر ببغضه وسخطه، فإن اللّه لا يحبه ولا يرضاه، كما قال تعالى: وهو وإن خلقه لما له في ذلك من الحكمة فلا يمتنع أن يخلق مالا يحبه لإفضائه إلى الحكمة التي يحبها، كما خلق الشياطين، فنحن راضون عن اللّه في أن يخلق ما يشاء، وهو محمود على ذلك. وأما نفس هذا الفعل المذموم وفاعله، فلا نرضى به ولا نحمده، وفرق بين ما يحب لنفسه، وما يراد لإفضائه إلى المحبوب، مع كونه مبغضًا من جهة أخرى؛ فإن الأمر الواحد يراد من وجه ويكره من وجه آخر، كالمريض الذي يتناول الدواء الكريه؛ فإنه يبغض الدواء ويكرهه، وهو مع هذا يريد استعماله لإفضائه إلى المحبوب، لا لأنه في نفسه محبوب. وفي الحديث الصحيح يقول اللّه تعالى: (وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه)، فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي / يكره الموت، كان هذا مقتضيًا أن يكره إماتته، مع أنه يريد إماتته؛ لما له في ذلك من الحكمة ـ سبحانه وتعالى ـ فالأمور التي يبغضها اللّه تعالى وينهى عنها لا تحب ولا ترضى، لكن نرضى بما يرضى اللّه به حيث خلقها، لما له في ذلك من الحكمة، فكذلك الأفعال التي لا يحبها ولا يبغضها لا ينبغي أن تحب ولا ترضى، كما لا ينبغي أن تبغض. والرضا الثابت بالنص هو أن يرضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، كان حقًا على اللّه أن يرضيه)، وأما بالنسبة إلى القدر فيرضى عن اللّه، إذ له الحمد على كل حال، ويرضى بما يرضاه من الحكمة التي خلق لأجلها ما خلق وإن كنا نبغض ما يبغضه من المخلوقات، فحيث انتفي الأمر الشرعي أو خفي الأمر الشرعي لا يكون الامتثال والرضا والمحبة، كما يكون في الأمر الشرعي، وإن كان ذلك مقدورًا. وهذا موضع يغلط فيه كثير من خاصة السالكين وشيوخهم، فضلًا عن عامتهم، ويتفاوتون في ذلك بحسب معرفتهم بالأمر الشرعي وطاعتهم له. فمنهم من هو أعرف من غيره بالأمر الشرعي وأطوع له، فهذا / تكون حاله أحسن ممن يقصر عنه في المعرفة بالأمر الشرعي والطاعة له. ومنهم من يبعد عن الأمر الشرعي، ويسترسل حتى ينسلخ من الإسلام بالكلية، ويبقى واقفًا مع هواه والقدر. ومن هؤلاء من يموت كافرًا، ومنهم من يتوب اللّه عليه، ومنهم من يموت فاسقًا، ومنهم من يتوب اللّه عليه. وهؤلاء ينظرون إلى الحقيقة القدرية معرضين عن الأمر الشرعي ولا بد مع ذلك من اتباع أمر ونهي غير الأمر الشرعي، إما من أنفسهم وإما من غير اللّه ورسوله، إذ الاسترسال مع القدر مطلقًا ممتنع لذاته، لما تقدم من أن العبد مفطور على محبة أشياء وبغض أشياء. وقول من قال: إن العبد يكون مع اللّه كالميت مع الغاسل لا يصح ولا يسوغ على الإطلاق عن أحد من المسلمين، وإنما يقال ذلك في بعض المواضع؛ ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر اللّه عليه، وإلا فإذا علم ما أمر اللّه به وأحبه، فلابد أن يحب ما أحبه اللّه، ويبغض ما أبغضه.
|